آداب العاطفة

الفصل الأول

ما زلت أذكر قولك ذات يوم :
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...
فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث... ما أجمل الذي لن يحدث .
قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة أخرى .
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .
- أتريد قهوه ؟
يأتي صوت عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري .
معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم أخلعه منذ أيام .
يخذلني صوتي فجأة ...
أجيب بإشارة من رأسي فقط .
فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات .
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقاً معلقه وقطعة سكر .
ولكن مدينتنا تكره الإيجاز في كل شيء .
إنها تنفرد بما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف .
ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .
أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لكِ ..
بعضها مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات فقط... كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام .
كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكلام, والذاكرة إلى النسيان, ولكن ..
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبكِ .
فكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرّة . ولحظتها فقط, شعرت أنني قادر على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبيّة, ورحت أطارد دخان الكلمات التي أحرقتني منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الأخيرة , وبقايا الخيبة الأخيرة. .
من منّا يطفئ أو يشعل الآخر ؟
لا ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر... معك فقط سأبدأ الكتابة.
ولا بد أن أعثر أخيراً على الكلمات التي سأنكتب بها, فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أختر تلك القصة .
قصه كان يمكن أن لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, عند منعطفات فصولها .
من أين جاء هذا الارتباك؟
وكيف تطابقت مساحة الأوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة الشاسعة البياض للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مُسنده على جدار مرسم كان مرسمي ؟
وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الألوان. وتحول العالم إلى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالأسود والأبيض فقط ؟
ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفلام السينما الصامتة .
كنت أحسدهم دائماً, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابة دون جهد, وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلون بين امرأتين دون كلفة ..
كان لا بد ألا أكون إلا رجلا لامرأة واحدة !
هاهو ذا القلم إذن.. الأكثر بوحا والأكثر جرحا ً.
ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء . ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرحة .
وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه كما أردتها , فَلِمَ رعشة الخوف تشلّ يدي , وتمنعني من الكتابة؟
تراني أعي في هذه اللحظة فقط ، أنني استبدلت بفرشاتي سكيناً. وأن الكتابة إليك قاتله.. كحبك .
ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرّة. شعرت أنني على وشك أن اعثر على جمله أولى, ابدأ بها هذا الكتاب .
جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .
كأن أقول مثلا :
"أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا.
لا تحبي الجسور بعد اليوم..".
أو شيئا آخر مثل : { الى لقاء }

تعليقات

المشاركات الشائعة