عبق المكان

ويظل الإنسان مشدوداً إلى المكان ، وقد يصعب عليه أحياناً مغادرته ، وإذا غادره  يحنّ إليه مرةً أخرى ، بل مراتٍ ومرات، وإذا  طال به الزمان ولم يعد إليه فإنه يظل يستنشق عبقاً يُذكره به ، وكم في الذكريات من شجنٍ ووجد! ولطالما كان للأمكنة عبق فيها، ما يربط كل موطن بإنسانه ، وبين كل  منزل وساكنه ، رباط خفي ،  يتجاوز  المشاعر العادية يفوق الوصف حيث لا يمكن ان يُشرح أو يُفسر، وإنما يُحس فقط ، شيء  أقرب إلى علاقة الروح بالجسد ، بل تتجاوز المشاعر والأحاسيس العادية ، إلى تلك العلاقة  في قدسية شفافة ، ما يجعل الشخص في حالة جذبٍ متناه إلى ذلك المكان الذي سبق وأن عاش فيه. فإن أراد أن يبارحه صعب عليه الرحيل منه ، وإذا  بارحه عاد إليه ثانيةً ،  حيث يظل  ما بين  مدٍ وجزر  أشبه  بحالة البحر .


الأحزان  خلف جدران الزمان. ذلك أن المكان له قدسية سر العشق الذي يهيج الذكريات  ليخلق عالماً مدهشاً من الإبداع وحيث إنّ البحار تشتاق لمكانها فهي لا تبارحه ، وإن فقدت جزءاً منه بفعل الجزر، فهي تعود إليه مداً، وإن لم يكن جزراً ولا مداً ، ظلت تلك الأمكنة القريبة لا تبارح حضن البحر، لكي تشكل تلك السواحل الجميلة ذات الألق الجذاّب مكونة ملاذاً  لأناس جاءوا إليها  مستأنسين ، وما أروع أنس البحر في حديثه الصامت الشجي! حيناً وحيناً  في صوت أمواجه ، عندما تكون هادئة البال ،  وأحياناً أُخر في دفء أعماقه المكنونة بالنفائس من الدرر وعجائب الصور لمخلوقات تحكي  أسراراً لهذا الكون المتناسق براً وبحراً ، وفي الفضاء ما لم نكن نعلم حتى الآن ، ولم تزل الابحاث تُجرى علها تجد  للبشرية ملاذات آمنة تحميها من مآلات الخلل الحادث في تعامل الإنسان مع البيئة ، وكثرة الخروقات والثقوب التي تحدث بسبب سوء التعامل ، والجهل بالمخاطر المحدقة بمصير كافة الخلائق ، في بحرها وبرها وجوها .
سحر الطبيعة وجمال المكان
 ففي الأمكنة التي نسكنها ، وتلك التي نؤمها ثم نفارقها ، في كليهما عبق ، وعندما يختلط عبق المكان برحيق الذكريات يكون لما فات من عمر الانسان طعم خاص يتخلل أعماق الذات ،  ومشاعر تجيش في النفوس وتجوس ما بين الخلايا ،  لتطرد تلك الفراغات التي تكون قد سكنت في مساماتها لتحل محلها فنشعر بأننا لازلنا متواجدين وجادين في الإقدام إلى الأمام .. وقديماً قيل (..الإقدامُ قتّالُ ..) ودعونا لنقل اليوم: ( إن الإقدام يُحيي ولا يُميت ) . وما أروع التمسك بالمكان وأقسى الهجران إلى غير رجعة إليه ! ذلك أن العَوْدُ يقوي عُود الشكيمة ،  فيبث في الإنسان طاقة ظلت كامنة فيه فتذوب بذلك تلك المشاعر التي ظلت متحجرة فتنفسُ في النفسِ روح  الانتماء الى المكان ، وتتوارى الأحزان خلف جدران الزمان ، ذلك أن المكان له قدسية سر العشق الذي يهيج الذكريات ليخلق عالماً مدهشاً من الإبداع في كل شيء ، فنرى ما لا يراه عن المكان أولئك الغرباء ، حتى ولو آل المكان إلى أطلال .. وقديماً قال الشاعر:   بُليت بُلى الأطلال إن لم أقف بها ، وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه.

تعليقات

المشاركات الشائعة