حصاني المجنح

حصاني المجنح (قصة)

لماذا يتبسَّم؟! وكذا هو في كل مرة! ألا يرى صخرة اليأس وقد سدَّت فوَّهة الغار؟ ألا يوقن ألاَّ شعاع للأمل وسط هذا الظلام الحالك؟! ويبتسم..؟! هل يَرى ما لا أرى؟! أتعجب.. - ستصيبُني بالجنون بابتسامتك تلك وتفاؤلك الساذج! يضحك :- وهل لم تُصَب بالجنون إلى الآن بتشاؤمك هذا؟! لماذا هذه النظرة السوداوية؟! أبشر يا صاحبي! يبتسم، ثم يمازحني :- أتذكُر المرة السابقة حين قلتَ………؟ والتي قلبها حين ظننتَ………..؟ أما آن لك أن تخلع نظارتك السوداء؟ نظارتي التي يسميها سوداء أسميها أنا: واقعية – عقلانية – ناضجة.. ولكنه المنتصر في كل مرة! كلُّ مرة ينفض الغبار عن مرَّات سابقة تكرَّر فيها الموقف بحذافيره.. كان هو الغالب دائمًا، ولكن أيظن أن كل مرة سيحدث الأمر ذاته؟! لا أدري من أين يكتسب هذه الثقة؟! غادرتُ العمل منصرفًا إلى المنزل، أسير متجهًا إلى سيارتي في حَرِّ العصر الخانق.. بالرغم من ضيقي بتشاؤمي؛ هل يا تُرى قد ألفتُه حتى صار جزءًا مني؟ أو صرتُ كمُدمِن لا يستطيع أن يستغني عن المخدِّر وإن كرهه؟.. أجتاز الشارع وسط زحام الطلبة المنصرفين من المدارس وصراخ الأطفال المزعج..يقولون دومًا أنني وهو وكأننا "فولة" قُسمت نصفين، ولكن يبدو أن أحد نصفَي تلك "الفولة" كانت قبلتُه قِبَل المشرق؛ فتغلغل فيه النور حتى تجسَّد فيه، ينظر إلى المُحاق فينعكس نوره عليه فيراه بدرًا، بل يراه بعضُ مَن حوله بدرًا أيضًا.. يستبشر.. ويبتسم.. والنصف الثاني في ظلامٍ نشأ.. أنا..حيث القبلة قِبَل المغرب، لا أرى الشمس إلا حال احتضارها خلف أمواج البحار.. أتردَّد.. أخاف.. أتوجَّس.. لا أدري كيف يتَّسع قلبه لمثل هذا التفاؤل؟! وهل يسعد بذلك أم أنَّ السعادة في مثل إحجامي المتوجِّس؟!.. أصرخ في بعض طلبة المدارس الجالسين على سيارتي.. يضحكون على حِدَّة الصراخ كأن مَن أمامهم به مَس مِن الشيطان! لماذا لا أكون صريحًا مع نفسي؟! أنا أنظر إلى كل ما حولي بنظرة تشاؤمية، ومِن خلال نظارة سوداء، وهذا بلا شك يكدِّر عليَّ حياتي.. فلأكن صريحًا قليلاً مع نفسي.. أُدير سيارتي التي أتمنى ليلاً ونهارًا أن أتخلص منها.. تلك المزعجة! بالتأكيد هؤلاء الذين ينظرون إلى ابتلاءات الحياة وصعوباتها ومشاقها بنظرة غير نظرتي يشعرون براحة في نفوسهم، أو لعلهم هكذا يُظهِرون.. أتحرَّك بالسيارة نصف متر وأقف، ثم نصف متر وأقف في إشارات مزدحمة بحافلات ممتلئة بالموظفين وطلبة المدارس.. تبًّا لك يا أعصابي ما عدتِ تحتملين! أهي خِلقةٌ يخلق اللهُ الناسَ عليها؟ أم أنها التربية؟ أم أنه الإيمان؟.. وهل يمكن أن أتغير؟ ما هذه الأحلام التي أسبح فيها وسط هذا الزحام القاتل.. نزلتُ من السيارة لأتشاجر مع سائق السيارة التي أمامي لا لشيء إلا لتفريغ شحنة يومية من الغيظ والنكد..
***********************************************

(قصة)

"هذا الولد غريب الأطوار.. مجنون.. معقَّد نفسيًّا".. لا جديد؛ كثيرًا ما يتهامسون بهذه الأوصاف ناصحين أباه أو أمه، ثم يتبسَّمون في وجهه ابتسامة صفراء كأنهم لم يكونوا يقطعون في "فروته" منذ قليل! يبتسم هو أيضًا نفس الابتسامة الصفراء التي تعلمها منهم!"ستعمى عيناه.. سوف يضعف بصره.. سوف يحدودب ظهره".. أوف، وأيُّ أوف! لماذا يتكالبون عليَّ وكأنني عدو استراتيجي يهدِّد منطقة الشرق الأوسط؟!

كان عاشقًا للقراءة منذ صغره، لا يجد متعته إلا في الكتاب، وبالطبع كان البعض يعتبر هذه حالة مرضيَّة لانصرافه عن لعب الكرة الشراب أو بالعبوات الفارغة في الشارع، والعودة كل يوم بشق في الرأس يحتاج إلى بضع غُرَز كابن الجيران، أو على الأقل خناقة مع أحد أولاد الشارع!

هذا النموذج المشجوج هو الطفل الطبيعي السوي الرائع في نظر ناصحي والديه بالتأكيد! كم ملَّ من هؤلاء المتطفلين الذين لا يدرون ماذا يمثِّل الكتاب بالنسبة إليه!  مرت الأعوام وحبُّه للقراءة يزداد، ولذته بالكتاب تزداد، وكلما كبُر كلما كبُر ما يقرأ.. تفوَّق -بلا شكَّ- على أقرانه، وتميَّز عنهم في حديثه بثقافته الواسعة، واستطاع بالضربة القاضية أن يصرع أعداء القراءة الذي كانوا يوسوسون لوالديه.. أو هكذا ظنَّ! تخرج من الجامعة، وبحث عن عمل.. تزوج وأنجب.. و.. [هل صارت القصة مملَّة؟ : )
إذن دعني أقلب الأوراق سريعًا حتى أصل إلى....... نعم؛ هذه اللحظة..].
في وقت الفراغ في عمله يبدأ زملاؤه في تبادل النكات السخيفة، ويجامل بعضهم بعضهم بضحكات ساقطة مع تبادل ضربات الأكف القادمة من أعلى لتفرقع في يد المنكِّت السخيف! كان يعتزلهم ويخرج كتابه ليقرأ فيه..-  ماذا تفعل؟ كائن طحلبي يتطفل عليه.. كم يكره هذه الطفيليات.. تبسَّم تلك الابتسامة الصفراء متجاوزًا هذا السؤال الذي لا معنى له وإلا فإن الممسك بكتاب ناظرًا فيه بالتأكيد لا يلعب التنس أو "يقمِّع" بامية!

- أقرأ!  نظر إليه صاحبه نظرة تعجُّب، وانصرف عنه لمواصلة الاستماع إلى النكات السخيفة..أين كنت؟ أخذ يبحث عن الفقرة التي توقف عندها حتى وصل إليها وشرع في القراءة..
سطر.. سطران.. ثلاثة..
- ما اسم هذا الكتاب؟رفع عينيه ونظر إلى السائل.. كائن طفيلي آخر.. أعطاه نصيبه من الابتسامات الصفراء وأجابه، ويبدو أن الكائن لم يعبأ بعنوان الكتاب أو لم يسمعه منه أصلاً فقد التفت عنه بعد أن ذكر أول كلمة من عنوان الكتاب، وكأنه يتلذذ بمقاطعته وحسب! عاد مرة أخرى.. أين كنت أين كنت؟ نعم هنا.. واصل القراءة.. سطر.. سطرين.. ثلاثة..- هل علمت ما حدث لابن المدير؟تبًّا لكم! أغلق الكتاب مستسلمًا بعد هذه الجولات ورفع عينيه سائلاً ببلاهة:- ماذا حدث لابن المدير؟ في الليل.. أدى صلاة العشاء، وارتدى البيجامة، وأعد كوبًا من الشاي، وأمسك الكتاب.. أخذ يبحث عن العلامة.. لم يضع العلامة حيث وقف! أخذ يحاول أن يتذكر أين توقف.. أخذ يقلب أوراق الكتاب وكله سخط على متطفلي العمل حتى تمكن من الوصول إلى الصفحة، وبدأ في القراءة
***********************************************

قصَّ عليَّ قصةَ توبةٍ مِن أعجب ما سمعتُ..  إنها توبته هو.. يجلس في سيارته بجواره فتاة وبيده المخدرات، وفي المقعد الخلفي صديق له وبجواره فتاة أيضًا.. وبينما هم كذلك إذ رأى رجلاً ملتحيًا يقبل عليهم.. قال لي: لم أكن أكره في حياتي أكثر من الحكومة والشيوخ! أخذ يتأهَّب لمشاجرة عنيفة مع الشيخ المقبل عليهم.. ولكن الرجل توقف بجوار زجاج السيارة، ونظر إليهم وتبسم في هدوء قائلاً: هداكم الله! يقول لي: كان المتوقع منَّا أن نسخر ونتندَّر بهذا الرجل الذي ألقى كلمته وانصرف، ولكن خيَّم علينا جميعًا صمتٌ عجيبٌ، ولم ينبس أحدٌ منا ببنت شفة.. بعد أن مر اليوم يغشاه وجومٌ غريبٌ رجع إلى بيته.. وظلت صورة الشيخ تلاحقه، وابتسامته لا تفارق مخيلته، وصوته الهادئ الداعي لهم بالهداية يتردد في أذنيه فيزلزل كيانه. يخبرني أنه ظل هكذا فترة.. يحاول أن يهرب من ذكرى ذلك الشيخ ورنين كلماته، ولكنه يعجز.. حتى جاء يوم كان في شرفة منزله، ونظر إلى السماء، ووقع في قلبه أن يذهب إلى المسجد..

**********************************************

ميكروباص!
(قصة قصيرة)

اختار مكانًا بجوار نافذة (الميكروباص)، وأخرج كتابًا من حقيبته كعادته، وشرع في القراءة..

(الميكروباص) لم يكتمل عدده بعد، وسائقه يقف مناديًا بنغمة سوقية مميَّزة ترسَّخت في العقل الباطن لصاحبنا؛ فصار لا يتذكر ذهابه إلى العمل في الصباح الباكر إلا وتتبادر إلى مخيلته (شبورة) الصباح ممتزجةً بنداء السائق ذاك وبرودة لحظات الانتظار حتى يكتمل عدد (الميكروباص)!

مصر.. مصر.. مصر..

بنغمة مميزة.. يختفي فيها حرف الراء، وتتوسط الصاد بين السين والصاد، وتلتحم النداءات لتصير (مَصْمَصْمَصْ)! ولا يخفى مجاز الكل عن الجزء فـ(مصمصمص) هذه ـ والتي يقصد بها مصر ـ هي القاهرة عاصمة البلاد.. وعلى تلك النغمات قلَّب صفحات الكتاب ينتظر اكتمال العدد.. صفحة صفحتان ثلاث.. توقف منتبهًا إلى أنه يقرأ بعينيه ولكنه لم يعِ أي كلمة مما قرأ..

أمر عاديّ يحدث معه أحيانًا.. أعاد علامة التوقف في الكتاب إلى موضعها الأول.. أغلق الكتاب، وأسند رأسه على زجاج النافذة بجواره، وأخذ يحرك شفتيه ببعض الأذكار والأدعية..

كانت أنفاسه ترسم خريطة عشوائية من بخار الماء على زجاج النافذة يرى مِن ورائها هذا السائق وهو يُلِح على المارة، وكأن إلحاحه سيدفع أحدًا لأن يغيِّر وجهته ويركب معه!

شابَّان ركبا (الميكروباص) معهما مجموعة من الحقائب.. الحمد لله.. من الواضح أنهما مِن طلبة جامعة القاهرة، ومعهما حقائب الأسبوع بالمدينة الجامعية أو السكن الخاص.. اعتاد على هذا المشهد، واعتاد أيضًا على رؤية تصفيفة الشعر وكيلو (الجِل) الذي يتربع على رأس كل منهما، و(البنطلون) المتشبِّث بصعوبة وقد أوشك على السقوط مبديًا من ورائه جزءًا من الملابس الداخلية (المشجَّرة) في مشهد يعتبره البعض علامة على قمة الرجولة!

تكثَّفت بعض قطرات بخار الماء على الزجاج وبدأت تنحدر إلى أسفل.. راقبها بعينيه..

صوت مزاح الشابين المتصنِّع وضحكاتهما المبتذلة المختتمة ببذيء السباب على أنغام صاحبنا السائق السوقي سحبته إلى أعماق هذا الشعور الهلامي المُصاحب لكل صباح!

راكب آخر.. الحمد لله.. راكبة وليست راكب.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. أشاح بوجهه ولكن عطرها النفاذ اخترق مركز الشم في المخ.. وسأل نفسه ككل يوم: كيف سمح لها أبوها أو أخوها بذلك؟

وطبعًا كالعادة.. تحوَّل كل شاب من الشابين إلى روميو أو مهنَّد! تغيرت طريقة الكلام، وارتفعت درجة حرارة الشهامة، وغلظ صوت كل منهما كأن الفتاة قد أهدت إليهما ضفدعين ابتلع كلٌّ منهما أحدَهما!
تيه تيه.. نسأل الله العافية.. كيف سنخطو خطوة للأمام وهذا حال نبض القلب؟!

مصمصمص!!

السائق لا يمل.. وبخار الماء يتكاثف ليرسم دلتا النيل مع تغييرات طفيفة! يرى مِن خلال فرعي دمياط ورشيد السائق وهو يشير إلى رجل مسن من بعيد ويقول: واحد مَصْ!

آهٍ يا مخادع! خدعة كل يوم! واحد مصر، وبعد أن يركب وقد ظن أن الانطلاقة ستبدأ بمجرد أن يغلق باب (الميكروباص) وراءه - يجد أنه قد خُدع وأنه سينتظر.. ككلِّ يوم

*******************************************

عندما ماتت !
(قصة رمزية)
رغم لهيبِ الشمسِ الذي يُذيبُ الجلودَ ..
إلا أنَّها خرجتْ ـ كعادتِها ـ لتُنزِّهَ (حنانًا) !
سارتْ بقدميها الصغيرتين حاملةً (حنان) بين يديها ..
مَضَت بين سيارات حربية على جانبي الطريق ..
وجنودٍ مدجَّجِين بالسلاح ..
مرَّت تحت فوَّهات مدافع ..
وذئابٍ قد تلطَّخَتْ أنيابُها بدماء ذويها ..
ولكنها ..
(مَضَتْ) ..
حتى وصلت إلى ظلِّ شجرتها ..
جلست تحتها .. وأراحت (حنانًا) في حجرها ..
"أليس هذا هو المكان الذي تحبِّينه يا (حنان) ؟!"
لم تنتظر جوابًا .. فإن (حنانًا) لم تعُدْ تنطق منذ عام !
ضمَّتها إلى صدرها ضمَّة قوية ..
ثم أبعدتها وقد اغرورقت عيناها بالدموع ..
"كم افتقدتُك يا (حنان) !"
لم تنتظر جوابًا أيضًا ..
فلم يكن لدُمْيَتِها أن تتكلم !
سالت دموعها على وجنتيها الصغيرتين ..
حتى بلَّلت الدُمية ..
"إنهم يقولون أنك قد مِتِّ
.

***********************************

وردةٌ لا تذبل
( قصة قصيرة )

انتهت من قصِّ حكاية قبل النوم على مسامع ( وفاء ) الصغيرة ذات الخمس سنوات ، والتي تزامن نومُها مع نهاية القصة بعد أن أخذت تدافع النوم الذي كان يداعب جفنيها أثناء سماع القصة ، وكأنه يريد أن يحرمها من سماع انتصار البطل في نهاية القصة .
بسمة ارتسمت على شفتي أمها .. أخذت تملأ عينيها بمشهد البراءة النائمة ، وكأنها ترتوي بالنظر إلى فلذة كبدها وأنيستها في هذا المنزل .. هذا المنزل الذي لا تعرف جدرانه منذ سنوات إلا ( وفاء ) وأمها ..
قامت بهدوء سائرة على أطراف قدميها إلى باب الحجرة .. التفتت لتلقي نظرة على أميرتها الصغيرة النائمة ..
مرَّ بخاطرها ..
بسمته تداعب مخيلتها كأنها حلم جميل ..
نظراته الحانية .. كلماته الرقيقة ..
تذكرت يوم أن كان يحتضن يديها بين يديه و .. ويحلم ..
نعم .. يحلم معها ..
يقرآن القرآن سويًّا .. تحوطهما الملائكة فرحين بهما ..
فرغ من قراءته .. التفت إليها وقال : أريد أن أحيا بالقرآن يا شريكة العمر .. أتعينيني ؟
نظرت إليه وقالت : معك إن شاء الله .. أعاهدك أن نحيا ونموت لله ..

*****

خرجت من حجرة ( وفاء ) الصغيرة متجهة إلى غرفة المعيشة .. فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه كتابًا قديمًا .. ألقت جسدها الذي أنهكته الأحزان والآلام على أقرب مقعد لها .
فتحت أولى صفحات الكتاب .. قرأت أول إهداء كتبه لها بخطه 
- جئتُ لكِ بهذا الكتاب ، أعطيني قلمًا لأكتب لك إهداءً ..
تناولت من يديه وردة رقيقة ، وأمسكت الكتاب وطالعت عنوانه .. فتحت حقيبتها باحثة عن قلم .
فتح الصفحة الأولى .. أمسك القلم

ناولها الكتاب .. تعلقت عيناها بتلك الجملة التي ذيل بها إهداءه .. ورود وأشواك ! .. بدت على وجهها الحيرة ..
نظر إليها قائلًا :
كثير من الناس يظن أن طريق السعادة طريق رحب واسع مفروش بالورود ، فإذا وقع به بلاء في هذا الطريق ظن أنه قد ضل الطريق .. بل قد يظن أنه سار منذ البداية في الطريق الخاطئ .. ولم يدرك هؤلاء أن طريق السعادة به أشواك .. بل كثير من الأشواك
كأنني أكلت !

*****************************************

( قصة قصيرة )

رائحة البخور تعطِّر ذلك المسجد الصغير .. المتنفِّلون بين قانتٍ وراكعٍ وساجدٍ .. حلقةٌ صغيرةٌ في زاوية المسجد يجلس فيها شيخٌ حوله عدد من الأطفال .. تسمع أصواتهم العذبة وهم يرددون وراءه : ( اهدنا الصراط المستقيم ) بلغتهم العربية المتكسرة .. ثم وهم يختمون سورة الفاتحة ( ولا الضالين ) ترى البسمة على وجوههم البيضاء المشربة بحمرة ..
ترى السعادة البريئة من أولاد يرتدي كل منهم قميصًا عربيًّا ، وتزين رأسه قلنسوة بيضاء ، قد تبدو غريبة هناك .. في تركيا !
والبنات يرتدين حجابًا صغيرًا .. قد يبدو لأول وهلة متناقضًا مع ملابسهن القصيرة نوعًا ما .. ولكنك سرعان ما ترتسم البسمة على شفتيك متى تذكرت أنهن بين الرابعة والخامسة من العمر ..
تستنشق الهواء .. ما أجمله من جو .. وما أروعها من روحانيات ..
تُلقي بسمعك لهذه الزهور بعد أن أتم معهم شيخهم سورة الفاتحة .. يقول أحدهم بلهفة :
- من سيأخذ القرش اليوم يا شيخ ؟
تبسم الشيخ وقال :
- أفضل من حفظ اليوم هو ….
أرهف الأطفال أسماعهم مشتاقين لمعرفة الفائز بقرش اليوم .. اتسعت ابتسامة الشيخ ثم سألهم :
- لو أخذ كل واحد منكم القرش ، ماذا سيفعل به ؟
- سأشتري لعبة ..
- وأنا سأشتري بالونة ..
- أما أنا فسأدخره للعيد ..
- وأنتِ يا أمل ؟
وجه سؤاله لأمل التي لم تشارك في الجواب .. فابتسمت في استحياء طفولي وقالت :
- سأشتري به حلوى يا شيخ !
نظر إليهم الشيخ ثم قال لهم :
- قبل أن تعلموا من الفائز بالقرش اليوم سأقص عليكم قصة .. أتدرون يا أحبابي ثواب بناء المساجد ؟
سكت هنيهة ، ثم استطرد قائلاً :
- من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة ، وكذلك من بنى مسجدًا فله ثواب كل من عبد الله فيه .. انظروا هذا الذي يصلي هناك .. من بنى هذا المسجد ينال مثل ثواب ذلك المصلي الآن .. أرأيتم هذا الشيخ الكبير الذي يقرأ في المصحف عند السارية هناك .. من بنى هذا المسجد فله مثل ثوابه ..
قاطعه أحد الأولاد قائلاً :
- ونحن أيضًا يا شيخ ؟ هل ينال مثل ثواب مدارستنا للقرآن ؟
أومأ الشيخ برأسه :
- نعم يا بنيَّ .. كل حرف تقرؤه ينال مثل ثوابه .. وإذا قرأت سورة الفاتحة ـ التي أتممتَ حفظها اليوم ـ في الصلاة حتى تكبر ينال هو مثل ثوابك .. ثم تعلِّمها

********************************************

رحلة

(قصة قصيرة)

غادر بلاده

قطع المسافات

عبر الأهوال

لم يكن هدفه جمع مال

أو تحصيل دنيا

لقد كان هدفه أسمى بكثير

وأرفع

لقد اجتاز الصعاب والأهوال ليصل إلى أرض الشهادة

عانى الكثير والكثير

وهان ذلك فى نظره عندما علم أن عمله لله عز وجل

ذهب إلى أفغانستان ليشارك المجاهدين فى ذلك الشرف

شرف الشهادة فى سبيل الله عز وجل

ظل فى رعب لفترات

حصار

قتال

أصوات المدافع والرشاشات

ظلال الطائرات على الأرض الجرداء

لكن فى سبيل الله يهون ذلك

أليس كذلك ؟

ذات يوم نام لا يأمن اللئام

فإذا به يرى رؤياه

يرى الحسناء تتعجله

تحثه على الإسراع

ما أجملها من حوراء

يستيقظ من نومه

يسأل أحد الأخوة المجاهدين

يفرحون

يستبشرون

ويبشرونه بالشهادة فى سبيل الله

لقد رأيت الحور العين اللاتى أعدهن الله للمجاهدين فى سبيله

لقد قرب لحوقك بدار القرار

الجنة .. أُخىًّ

فرح كثيراً

استبشر بالجنة ونعيمها

استعجل المعركة

واستعجلها أيضاً .. الشهادة

اشتعلت المعركة

حمى وطيسها

حارب وقاتل

أطلق زفراته المشوبة بروح الحماس

هلم إلى أيها الموت

هلم إلى..

هلم إلى لألقى الأحبة

محمد وصحبه

هلم إلى فما أشد اشتياقى إلى الجنة

هلم إلى فإنى أريد جوار الرب عز وجل

والنظر إلى وجهه الكريم سبحانه

هلم إلى سريعاً

********************************************

حُــطــام 

(قصة قصيرة)
حِرتُ في الإشارة إليها..
هل أقول هذه أم هذا؟
حِرتُ لأني لا أرى أمامي إلا حطاماً بشرياً ملقىً على ناصية الطريق، ماداً يده التي ما هي إلا عظام مكسوَّة بجلد مهترئٍ قد التصق بها التصاقاً..
وما يُنبؤك بأنوثة هذا الحطام إلا ذلك الحجاب المُخرَّق على رأسها، والذي اجتهدَتْ في لَفِّه حولها علّه يستر عورتها خاصةً بعد أن أكثرت خروقُ ثوبها من تحديها كلما أرادت أن تتستر..
خرجَتْ وألقَتْ بما بقى في جسدها من حياة على الأرض ومدَّتْ يدها.. ما أخرجها إلا ألمُ الجوع الذي فتك بأحشائها وببطون صغارها فأخذوا يتلوُّون ويبكون ويصرخون: (ماما)..
المساكين.. لا يدرون أن (ماما) أيضاً تريدُ أن تصرخَ.. ولكنَّ ألمهم وألمها قد أخرسوا لسانها فلم تستطع حتى أن تصرخ..
ألقَتْ نفسها ومدَّت يدها.. مرَّ بها المترفون.. رآها الأغنياء.. أسفت عليها إطارات السيارات الفارهة التراب.. ويدها ما زالت ممدودة..
رأيتُ هذا المشهد.. وتعجبتُ من قسوة قلبي، كيف صار يرى الجائع يصرخ أمامه ولا يهتز، والعائز يستغيث به ولا يرتجف قلبه..
أقَسوتَ قلبي من إلف هذا المشهد؟
أقسوتَ قلبي من اعتياد رؤية الشَّبِع الذي يؤثر صندوق القمامة بالطعام عن أخيه المتضور جوعاً؟!
*********************************************

الأزيز

علا أزيزُ صدره وبدا بكاؤه مختنقاً.. تساقطت على وجهه عبراتُها الحارَّة.. اختلطت عبراتها بتراب كانت تسفيه الريح على وجهه الشاحب.. مدت يدها تمسح بعبراتها شفتي وليدِها علَّها تروي ظمأه..ما أقسى أن تحمل أمٌّ رضيعها بين يديها و.. يصرخ هو.. يتألم.. وتقف هي عاجزة..لا طعام.. لا شراب.. حتى صدرها جف عن اللبن..يعلو أزيز صدره فيمزق نياطَ قلبها المهترئة..تنظر حولها.. تلتفت إلى الشرق والغرب.. تخترق بنظرها الأفق.. أين أنتم؟ أين أنتم يا بني البشر؟أين أنتم مني ومن  صدره.. قلبها المتمزق.. دموعها الحارقة.. ويعلو الأزيز ويعلو.. ثم شهق الرضيع شهقة و.. وخبت الأزيز..  نظرت إليه في يديها وقد سكن جسده..

تعليقات

المشاركات الشائعة