كان ياما كان .. والحاصل الآن ..!
ربما يعتبر الكثيرون العودة الى الماضي ولو باجترار الذكريات ، حلوها ومرها هو ضرب من النكوص و هروبا الى الخلف من الحاضر ونائيا مضاعفا عن استشراف المستقبل!
لكن وللحقيقة ، فلسنا هنا في موقف التحجر في الماضي لمجرد الحنين ، اذ اننا ندرك أن ما مضى لن يعود ، هذا بالطبع قياسا الى القاعدة العامة ، بيد أنه في جزئية تنظيم الحياة فان قراءة سطور من الماضي لا ضرر فيها بل لابد ان نحن أمعنا النظر بعيون العقل فلابد أن نجد فيها من الدروس والعبر ما يساعد في مراجعة نمط الحياة الحالي ويؤسس لبناء مستقبل أفضل !
حينما رحل الاستعمار عن سوداننا الذي يفترض أن استقلاله الوطني كامل الدسم بالنظر الى كونه ينشد نحن جند الله جند الوطن صباحا ومساءا ويرتفع علمه فوق ساريات الدوائر والقصر والسفارات!
ترك ذلك الاستعمار تقسيما اداريا للسودان قوامة تسع مديريات يقوم على رئاستها محافظ من الخدمة المدنية ، ولكنه بهيبة رئيس دولة ، يتدرج تحته ضباط مجالس وعدد قليل من الأفندية يعاونهم رجال الادارة الأهلية من النظار والعمد ومشايخ القرى والدساكر والفرقان فيما يتعلق بجمع القطعان والعشور والعتب و حتى في حفظ الامن!
وكانت الحياة تسير في دقة الساعة وللعمل الحكومي وقاره واحترامه دون ارهاب أو خوف ، لان المواطن كان يتلقى خدماته كحق أصيل مقابل ما يقدمه من واجبات !
الدواء يصل الى الشفخانات ونقاط الغيار والمدخلات الدراسية تأتي دون أن يتعقبها الناظر ولا غيره من المواطنين الى درجة الترف في المعدات الرياضية ومجلات عمك تنقو للتثقيف ، والداخليات تأوى الطلاب القادمون من القرى البعيدة ويوفر لهم متعهد الأغذية الأكل المدعم بالفاكهة ، والمستشفيات مسئؤلة عن صحة المريض استضافة ودواء واغذية ونقله باسعافها ! دون أن يطلب منه توفير ثمن الوقود !
سار ت الحياة على هذا المنوال ولم تغير فيه فترة الديكتاتورية الأولى ايام الفريق عبود ، الا مسمى المحافظ الذي أصبح الحاكم العسكري وبقيت كل التركيبات الادارية الأخرى على حالها ، واستمر الوضع بعد ثورة أكتوبر !
ثم جاء حكم النميرى وأبقى عليه الى حين ، ثم بدأت سكين التقسيم للغرض السياسي تفعل افاعيلها ، لاسيما بعد أن انقلب النميري على اتفاقية أديس ابابا التي أرست دعائم السلام لعشر سنوات ، وقبلها لعب قليلا الدكتور جعفر محمد على بخيت بسياسة ما سمي بالحكم الشعبي الاقليمي الذي هو من حيث التنظير لا بأس به ولكنه أخفق في الجانب التطبيقي لان المرامي السياسية وليس توصيل الخدمات كانت من أهم دوفع نشأته وقد صوّر لهم شيطان المغازلة بالخلود في السلطة أن تقطيع الأوصال يفضي الى دوام الحال ، الذي هو من المحال بالطبع !
الان الانقاذ جعلت من جسد السودان حقلا لتجارب عملياتها الجراحية المؤلمة ، تارة بدعوى تقصير الظل الاداري الذي اصبح طوله أضعاف حائطه المائل ..و صار ما تبقى من أرض وشعب السودان المستقل شكلا والمستعمر مؤتمريا في مضامينه وسرقة امكاناته ، مقسمين الى ما يقارب العشرين ولاية ( ولسه جكسا ماشي ) يقوم على كل ولاية ، والى ، ومجموعة من المعتمدين والمستشارين وعشرات من أعضاء المجالس التشريعية والوزراء الولائيين وجيش عرمرم من الموظفين والعربات ذات الأعلام والعلامات و صفوف من الارتزاقيين المحسوبين كمثليين شعبيين ويتقدمهم كوادر الحزب الحاكم بالالاف ، هذا فضلا عن حكومة مركزية من عشرات الوزراء ووزراء الدولة وبرلمان اتحادي ومجلس ولايات بعدد طلاب جامعة من جامعات الرواكيب التي ملأت المدن حتى الصغيرة منها !
هذا فضلا عن وكلاء الوزارات والمساعدين لهم ، ومع ذلك فلا خدمة واحدة تصل الى المواطن يتناولها من هذا الجيش المهول !
رغما عن كل هذا تتحدث الدولة الرسالية عن رفع الدعم الوهمي أصلا عن المحروقات ، وما المحروقات الحقيقية الا قلوب الشعب من كل هذا العذاب الاداري والمناصب السياسية والترهل التشريعي و شواغر الترضيات التي تمتص المال والمحروقات وتضيع زمن الوطن بالخطب والضحك على المواطن !
نريد أن نعود الى عهد التسع مديريات والعدد القليل من الضباط الادارين وعد مخلص من الوزراء المركزيين ، فالتقشقف الحقيقي يبداء بالجانب الراسي من الدولة ثم يتنزل على الصعيد الأفقي لجماهير الأمة !
صحيح نحن نعلم أن تعداد المواطنين أختلف عن ذلك الزمان وعدد المدارس ليس كما كان ولا أعداد الطلاب ولا مرضى المستشفيات ونوع مسببات المرض وفقع المرارة تكالب على الأجساد والأرواح أضعاف ما كان عليه قبلا ، ولكن ليس من المعقول أن يكون السلم الادارى أطول من كل تلك السقوف وبكل هذه الكلفة ، ثم تأتي الدولة ببساطة لتضع كل ثقل قدح مونة تلكفتها على كاهل المواطن الضعيف وتطلب منه الصعود به وحيدا لترقيع سباليق وسقف اقتصادها المتهالك !
لم نسمع في بريطانيا التي تركت لنا ارثها من الخدمة المدنية والادارية أن قامت بالحياد عن عراقة نظامها لا عتبارات سياسية ولا مزاجية !
كل شيء ظل ثابتا في اطاره العام بغض النظر عن تبدل الحكومات بين الحزبين الكبيرين، نعم هي تتطور فيه تماشيا مع متطلبات الظروف والزمن ولكن دون المساس بجوهره أو زيادة تكلفته ، بل بالضغط عليها حتى لا يتطاير رذاذها ايذاء للمواطن في جيبه أو التأثير على انسيابية خدماته كما وكيفا !
اذا كانت الدولة الخالدة حكما وحزبا وجماعة جادة فيما تقول أو حتي خائفة على بقائها على الأقل فلتبدأ بنفسها بدءا برئيس الجمهورية ، وليخرج لنا ويقول أنه خفض مرتبه ومخصصاته وقلص عدد الوزراء الاتحاديين الى عشرة ودمج الولايات وعصر المعتمديات ولّصق المحليات و اقال كل جيوش التبطل و اعاد عرباتهم و بيتوتهم وبدلاتهم الى بيت مال الخلافة !
ولن نزود المحلبية بان نطلب منه تسريح الجيش والدفاع الشعبي مرة واحدة لاننا لن نبلغ درجة سويسرا التي ليس فيها حروب ولم تبشر بزال أمريكا عن الخارطة برفع الأصابع وتنكيس السلاح المصوب فقط لأطراف الوطن !
طبعا كل ذلك الكلام هو بندق في بحر ، والانقاذ ستنفذ ما تريد ، فوزير المالية ، صاجاته جاهزة لعواسة القرارات، والبرلمان أكفه الدافئة على أهبة الاستعداد للتصفيق الحار بيد على ظهر الحكومة تربيتا ، وأخرى على خد الشعب استفزازا ، أما ظهر الشعب فعلي انحناءاته الطويلة ، فليس أمامه الا حمل المزيد من الأعباء انابة عن كوادر النظام المرطبة ، والمجهدة بالسير الطويل خدمة للمواطن من خلال الظل الادارى البارد ، تاركة لبقية الشعب كل مساحات الشمس الحارقة ، جزاها الله عنا ما يناسبها من جزاء هو أعلم به سبحانه تعالى ..
، انه المستعان ..
وهو من وراء القصد..
تعليقات
إرسال تعليق